السبت، 5 نوفمبر 2011

هذا الجنس الأدبى المراوغ < قراءة في مجموعة (أصل و100 صورة) للأديب مجدي شلبي> بقلم الناقد الكبير الأستاذ قاسم مسعد عليوة

هذا الجنس الأدبى المراوغ
قراءة في مجموعة (أصل و100 صورة) للأديب مجدي شلبي
بقلم الناقد الكبير الأستاذ قاسم مسعد عليوة
"كلما اتسعتْ الرؤية ضاقت العبارة"
                                     النفرى
(1)
     تعددت مسميات الجنس الأدبى الذى تنتمى إليه هذه المجموعة ما بين قصص قصيرة جدا، أقاصيص، قصص الومضة، إيبجرامات، أنابيش، وغيرها من المسميات التى تحيل إلى القصر الشديد؛ وقد يكون من المفيد إيضاح أن كلاً من الإيبجراما والأنبوش، تأسيساً على الجذر اللغوى والمعنى الاصطلاحى لكل منهما، يَحْتمِل أن يـتـضـمن إلى جـوار الـقـص مـا قـد لا يـكـون قـصـاً، فالإيبجراما مأخـوذة من الكلـمـة  Epigramma وهـى مُـركـبـة فى اللـغـة الـيـونانية القديمة من كلمتين هـمـا  epos و  graphein وكانت تعنى النقش على الحجر فى المقابر، ثم تحول معناها إلى الكتابة على شىء، واصطلاحياً صارت تعرف بأنها شكل أدبى شعرى أو نثرى يتميز بالتركيز والتكثيف وواحدية الفكرة، واتسعت لتحوى معانى السخرية والفحش جنباً إلى جنب الحكمة والقول البليغ؛ أما الأنبوش فى قاموسنا العربى فهو ما برز، وحسب معجم لسان العرب فإنه أصل البقل المنبوش أو الشجر المقتلع بأصله وعروقه، والجذر نبش، وفى الوسيط أنابيش الكلأ ما برز على وجه الأرض منه متفرقا، وفى معلقة امرئ القيس "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل" ظهرت لفظة الأنابيش فى البيت الذى نصه  "كأن السباع فيه غرقى عشية ... بأرجائه القُصوى، أنابيشُ عُنْصُل"، والعُنْصُل نبات مُعمّر من الفصيلة الزنبقية  له ورق كورق الكرات. ما يهمنا أن الأنابيش استخدمت كمصطلح للدلالة على ما نُفـِّضَ عنه غبار الماضى، أو على ما استخلص مما هو محظور، ثم صار يُطلق على مقطوعات أدبية شعرية ونثرية قصيرة فى الغالب، ناقدة فى الأعم.

     وعليه فإن المسميات الثلاثة الأولى بحكم مكوناتها اللفظية، وحسبما اصطلح عليها، هى مسميات للقصص المتسمة بالقصرالشديد، ولأن مسمى أقاصيص بحكم كونه تصغير لمفردة قصة فحرى أن يؤخذ كمرادف للقصة القصيرة وليس للقصة القصيرة جداً، غيرأن الدفع بأن التصغير ليس هو القِصَر أمر وارد، وللتمييز أردف البعض مفردة قصيرة بها فصارت "أقاصيص قصيرة"؛ أما القصة الومضة فكما يبدو من مسماها فإن الإيماض سمتها الرئيسة، وهو إيماض سريع كإيماض البرق الذى ينبثق فيبهر رائيه. إنه الإيماض الفكرى والجمالى المنبعث من عناصر القص المتوجه إلى ذهن المتلقى ووجدانه شأنه شأن كل عمل أدبى وفنى أصيل. يترتب على هذا أنه وإن كان لعناصر القص وجودها الحتمى فى القصة الومضة فإن الاهتمام بهذه  العناصر ـ كلها أو بعضها ـ مرهون بقدرتها على الإيماض، أى أن الإيماض هدف ومرام القصة الومضة، بينما هو غير مطلوب لذاته فى القصة القصيرة القصيرة جداً وإن أدت إليه. على أية حال فإن المسميات الثلاثة على ما بها من تباينات طفيفة ـ حتى الآن ـ  تتسم  بسمة مشتركة هى القصر الشديد،  وما كان لها أن تتسم بهذه السمة، وسمات أخرى سيأتى ذكرها، إلا لأنها امتلكت إجابات على مجموعة من الأسئلة الشرطية من نوع الماهية والخصائص الدلالية والفنية والجمالية، وقد اختار مجدى شلبى مسمى "قصص قصيرة جداً لينسب إليه المجموعة التى بين أيدينا (أصل و100 صورة).

     يطول أمر الخوض فى تاريخية هذا الضرب القصصى فى الأدب العربى القديم وإسهامات كتـَّابه من أمثال: الأصفهانى، الجاحط، ابن الجوزى، الصولى، ياقوت الحموى، الثعالبى، ابن الأبَّار، ابن ظافر الأزدى، الأبشيهى، وغيرهم ممن صارت كتاباتهم تراثاً موزعاً على  أنواع وأجناس سردية مختلفة كـ: الأخبار والنوادر والحكايات والأمثال والمسامرات، وأنواع من القصص المتقدمة كـ: المقامات وقصص الحيوان والقصص الخيالية والشعبية والمنامات، بالإضافة إلى الرحلات والسير والمغازى وغيرها. نعم القصص القصيرة جداً لم تظهر، كجنس فنى، بمسماها هذا فى الأدب السردى العربى القديم، وهذ أمر طبيعى يتساوى فيه العرب وغير العرب، ولا ينبغى تبعاً لهذا أن نتعامل مع الأشكال السردية القصصية القصيرة جداً بالكيفية التى كتبت بها فى تراثنا بمعزل عن السياقات الثقافات والشروط الاجتماعية والبيئية السائدة وقتها، وعلى وجه العموم ليست التاريخية موضوعاً لهذه المقدمة، لكن على وجه العموم أيضاً أذكر بأن القصص القصيرة جدا ظهرت فى أدبنا العربى الحديث بمستويات متباينة فى كتابات كل من: طه حسين، الرافعى، جبران، خليل نعيمة وأواخر كتابات نجيب محفوظ وغيرهم من المحدثين؛ وكان ظهورها اللافت قد بدأ مع العقد السبعينى من القرن العشرين، غير أنها لم تلق الاهتمام النقدى اللائق، واستمرت فى تنام حثيث حتى مطلع الألفية الثالثة ففارت وكتب لها الانتشار الكبير.

     وأحسب "مجدى شلبى" ما اختار مسمى القصص قصيرة جداً لوضوحه فقط، وإنما لجمعه كذلك بين معيارى الكيف والكم. الكيف المتمثل فى التجنيس، فما يقدمه فى مجموعته هو "قصص" يحتوى كل منها على حدث وشخصية وزمان ومكان معظمها فى حالة تنام،  وهى عناصر مشتبكة مع مثيلاتها فى فنون السرد القصصى غير الموسومة بالقصر الشديد ؛ أما الكم فمتصل بالحجم، وما تعبير "قصيرة جداً" إلا الدليل الأوفى على أهمية الحجم بالنسبة لهذا الجنس الأدبى، فالقصص القصيرة جداً مكثفة من حيث الرؤية، مكتنزة من حيث الأسلوب، ومقتصدة من حيث اللغة.

     الكيف فى القصص القصيرة جداً، لا يتطلب توفر متطلبات التجنيس المشار إليها آنفاً فقط، وإنما يتطلب كذلك التكثيف، العمق، الإيحاء، الإدهاش، التفاجؤ، المصادمة، التوهج، والمفارقة؛  أما الكم فغير موضح الحدود، ولا ينبغى أن يكون واضح الحدود. صحيح أنه معيار لا استغناء عنه لأنه يحول دون الإطالة التى تلحق القصة القصيرة جداً بالقصة القصيرة، ويمنع عنها كذلك الضمور المَرَضى الذى يخرجها من دائرة القصص القصيرة جداً، لكن من أسس اعتماد هذا المعيار فنية استخدامه، وتكامله مع معيار الكيف، ولا بأس من وجهة نظرى أن تقتصر القصة القصيرة جداً على جملة واحدة أو تستغرق صفحة كاملة، لكن بمراعاة المسموحات المرتبطة بمساحة الصفحة أو ضرورات الاكتمال البنائى.

     فى القصة القصيرة جدا تذوب المتباينات والمتشابهات داخل حبكة شديدة الضيق، وعبر شخصيات جد قليلة، وأحداث واضحة المحدودية، وعلاقات مهما تعددت فهى تدور فى حيز بؤرى ضيق؛ ولعل هذا الضيق البؤرى هو ما يجعل المخروط الضوئى المنبثق منها منفرشا فى اتساع، وممتدا بطول؛ والتكثيف الذى هو أهم خصيصة فيها يفترض الاستعانة بلغة رهيفة محكمة التركيب، متخلصة من الشرح والتفسير، متجنبة الحشو والإطناب، مقتصدة فى الوصف، معتنية بعلامات الترقيم، غير متكئة على الزركشات والتوشيات؛ ويستلزم كذلك متانة البناء بما لا يشتت الانتباه، أو يجور على قصصيتها، أو ينحرف بها إلى جنس أدبى آخر كقصيدة النثر مثلاً، أو الخاطرة، أو النكتة، أو الحكمة، أو الخبر الحكائى.  

     ومع كون القصص القصيرة جداً على هذا الوضوح، الذى قلنا به، فإن وضع تعريف محدد لها مهمة غير يسيرة، لأسباب منها ذلك الاشتباك مع جنس أدبى سردى آخر هو "القصص القصيرة"، وعدم قدرة المفردة المضافة "جداً" على فك هذا الاشتباك. بل إن هذا المسمى ثلاثى المفردات يقوى من هذا الاشتباك ويدعمه، ليس هذا فقط وإنما يحيل إلى معانى التبعية أوالاستقلال المنقوص.  ولعله من الأوفق عدم الوقوف طويلاً أمام مشكلة وضع تعريف قاطع جازم لهذا الجنس الأدبى المراوغ، واستبدال المفهوم به، لأن التعريف سيجمده قبل أن يقضى عليه، فى حين أن المفهوم يتمتع بقدر كبير من الرحابة والمرونة والقابلية للتجدد. إن تعريفاً قاطعاً جازماً للقصة القصيرة ذاتها لم يتم الاتفاق عليه حتى الآن، وهذا هو سر تجددها المستمر، فى حين أن التعريف إطار، وللإطار حدود، والحدود قيود وموانع، فكيف نطلب هذا للقصة القصيرة جداً؟.    

     لتبلغ مراميها، لا تعتمد القصص القصيرة جداً على مهارة مؤلفها فحسب، وإنما تعتمد كذلك على الخبرة المشتركة بين مؤلفها ومتلقيها، وهى لهذا موجهة إلى المتلقى المدرك لتقنيات السرد، القادر على استكناه المضمر فيها واستخلاص المكتنز بها؛ وهو بالضرورة متلق مجتهد، مشارك، غير كسول، متلق معايش للواقع ومتجاوب مع التخييل، متمتع بذائقة رهيفة وفكر يقظ؛ وفوق هذا وذاك يمتلك خبرة توليد المعانى واستخراج الرموز واكتشاف إحالات التناص. هنا تكمن واحدة من أهم معوقات هذا الجنس الأدبى، فمتلق مثالى التكوين كهذا قد يُغرى المؤلف ويقوده إلى الإيغال فى الاختزال أو التجريد مبالغة منه فى الاعتماد على قدرات المتلقى، الأمر الذى قد يؤدى إلى الغموض المُفضى إلى الإعتام أو إلى التفكك، فيظهر المُدَّعُون وأنصاف الموهوبين ممن لم تكتمل أدواتهم بعد، وتكثر كتاباتهم المتسربلة بأردية هذا الجنس الأدبى، وما يلبث المبدع المبتكِر أن يجد نفسه محاصراً بهؤلاء، وإذ بالرداءة تطرد الجودة.
     هذا معوق أول، أما المعوق الثانى فمتصل بما يظهره المحافظون من المؤلفين والنقاد والمتلقين من تكتل للدفاع عن المستقر ذى الأصول التى رسخت أو حققت بعضاً من رسوخ؛ فمن فرط خوف النقاد والمؤلفين ـ ولا أقول فى هذه الحالة المبدعين ـ على ما حققوه أو يعملون على تحقيقة، ويظنون فى قوانينه الثبات، يقفون الموقف المناهض لهذا الجنس الأدبى. نفس الموقف، بتنويعة أخرى، يتخذه المتلقون إذ يخشون على ذائقتهم المتشكلة فى ظروف أسبق، لذا هم يُظهرون الرفض بسبب المغايرة لما تعودت ذائقتهم عليه، وللأسباب الثقافية والاجتماعية والسياسية إسهاماتها فى هذا الرفض. إنه الاعتياد بالنسبة للمتلقين، والتمسك بالمكانة بالنسبة للمؤلفين والنقاد.
    نتج عن هذين المعوقين موقفين معاديين، أولهما متطرف فى مقاومته للاتجاه التحديثى فى السرد القصصى، والآخر مُهَوِّن من الإنجازات التى حققها هذا الجنس الأدبى.
    يقابلهما موقفان مؤيدان، أولهما متطرف فى تأييده للحداثة فى السرد القصصى يصور القصة القصيرة جدا باعتبارها انقلابا على السرد القصصى التقليدى، والآخر مُهَوِّل للانجازات التى حققها هذا الجنس الأدبى. 
     رد هذه المواقف الأربعة، المنقسمة على بعضها، إلى المعوقيْن المذكورين آنفا أمر طبيعى، لكننى أضيف إليهما مشكلات سوء الفهم المترتب على انتساب هذا الجنس الأدبى الذى يرفع مؤيدوه رايات استقلاله إلى جنس أدبى أسبق هو القصة القصيرة، الأمر الذى أشرت إليه آنفاً، فثمة تداحلات بين عناصرهما ومكوناتهما، بل إن ما ذكرته من قبل عن الاتكاء على الخبرة المشتركة بين المبدع والمتلقى ليس خاصية تميز بها القصص القصيرة جداً وحدها.
     إن الأمر يكاد يشبه بشكل أو بآخر المشكلات التى واجهت قصيدة النثر؛ لكن مثلما أخذت قصيدة النثر تنال الاعتراف تلو الاعتراف بصيغ تطبيقية عملية شتى من أبرزها قبول المؤسسات الثقافية المحافظة الحيى لكتابها ونصوصها فى أجواء محتشدة بصيحات الرفض والاحتجاج؛ سارت القصص القصيرة جداً على ذات الدرب، وحصلت على الاعتراف العملى بذات الصيغ، وإن كانت محاولات تأصيل هذا الاعتراف، ما زالت تحتاج إلى دراسات نظرية وتطبيقية أكثر وأعمق.
     عند هذه النقطة، وبعد هذه العرض الذى أرجو ألا يكون قد طال، أعرج إلى المجموعة التى بين يديك عزيزى القارئ (أصل و100 صورة).
(2)
    العنوان صريح واضح، لا غموض فيه ولا إعتام، ولا يتطلب عظيم جهد لاستكناه ما يفضى إليه.. (أصل و100 صورة).. لكننى أراه، مع كل هذا، يحتاج إلى قدر من التأمل.
     أصل الشىء هو أساسه الذى عليه يقوم، وإنْ وُصِفَ بصفة ما كان هو منبت ومنشأ هذه الصفة، وللصورة معان لغوية غير قليلة منها ما يشير إلى: الرسم والتشكيل والتوصيف والتجسيم والكشف والتمثيل والتخييل، والتشبيه..الخ.
     وعادة ما يحيل الربط بين الأصل والصورة إلى معانى الاستنساخ، الذى هو فى حقيقته نقل من أصل، لكن الصورة ليست هى النسخة، فالنسخة فاقدة لوجودها المستقل ومرتبطة بالأصل برباط التشابه، وبكونها دالة على الأصل، وعند فحصها تفحص مقارنة بالأصل، وغالباً ما يكون معيار التطابق هو المعيار الذى يعول عليه عند إعمال هذه المقارنة؛ أما الصورة فإن لها وجودها المستقل عن الأصل، ودرجة قرب الصورة أو بعدها عن أصلها، وكذا مؤثرات محيطاتها عليها، أمور تجعل التساؤل عن درجة التطابق تساؤلاًً ثانوياً، تالياً فى ترتيبه للتساؤل حول استخداماتها التى تتيح للأصل التعامل مع المحيط الأرحب. صحيح أن المعانى المحتواة فى الصورة إنما هى مستمدة من الأصل، وصحيح أيضاً أن ما يتضمنه الأصل هو ما يُنتج المعانى الموجودة فى الصورة، لكن الصورة تتمتع بخاصيتى الاستبدال والحضور، ومن الصور ما قد يتطلب مضاهاته بأصله لا لقياس مدى التطابق وإنما لقياس مدى الاستقلال الذى يتمتع به؛ وهذا ما يتيح ويبرر، فى نفس الوقت، وجود الاختلافات بين الصورة وأصلها. إنه الوجود المستقل.
     ما ذكرت هذا إلا لأدلل على أن القصص القصيرة جدا التى تضمها هذه المجموعة إنما بُنيت على الاختلاف لا التشابه، وهذا الاختلاف قائم بين الصور التى ضمتها هذه المجموعة بعضها البعض من ناحية، وبين كل منها والأصل من ناحية أخرى؛ ومع الاختلاف كان التعدد، مئة قصة قصيرة جداً، وقد عُنى المؤلف بكتابة مفردة المئة بهيئة رقمية، وليس بحروف التهجئة، للتأكيد على ذات البعدين اللذين قلتُ آنفاً إن جنس القصص القصيرة جداً يحتوى عليهما، وهما: البعد الكمى للصور (العدد 100)، والبعد الكيفى (الاحتلافات فيما بينها والأصل من ناحية، وفيما بين بعضها البعض من ناحية أخرى)، لذا جاء العنوان بالهيئة التى تراها عزيزى القارئ مطبوعة على الغلافين الخارجى والداخلى لهذه المجموعة (أصل و100 صورة).
    تحدثتُ معك عزيزى القارئ عن الصورة والأصل، ووقفتُ وأوقفتك معى وقفة تأمل يسير أمام العنوان الذى هو واحد من النصوص الموازية لما تحتويه المجموعة؛ فما هو الأصل في هذا المحتوى؟ وما هى المعانى التى تحيل إليها الصور المتولدة والمستقلة عنه؟.. هل الأصل هو الحقيقة؟.. أم هو جذر الهوية؟.. هل هو مجموع القيم والأعراف والعادات والتقاليد المستقرة فى بنية المجتمع؟..أم هو مجمل مواقف المؤلف المركزية تجاه هذا المجتمع؟.. وهل تشير معانى الصور، المبنية على الاختلاف الذى قلتُ به، إلى اقتراب أم ابتعاد عن أصلها؟.. بمعنى هل هى صور حقاً أم هى مجرد مستنسخات لهذا الأصل؟.. وإن كانت صوراً فعلاً وليست مجرد مستنسخات، فما هو بون هذا الاقتراب أو ذاك الابتعاد؟
    هذا ما أحاول الإجابة عليه بأيسر وأوجز الجمل والعبارات.
     الأصل داخل المجموعة التى بين يديك عزيزى القارئ يجمع فيما أرى بين الإجابات الموجبة للأسئلة المطروحة حوله، فهو الحقيقة، وهو جذر الهوية، وهو مجموع القيم والأعراف والعادات والتقاليد المستقرة فى بنية المجتمع، (بتعبير أشمل وأوجز هو ثقافة المجتمع)، وهو أيضاً مجمل مواقف المؤلف تجاه هذا المجتمع، المؤسسة على ثقافته باعتبارها نقطة ارتكاز وقياس.
     الحقيقة حمالة أوجه، كل وجه منها صحيح، ومما هو مستقر فى الأدبيات الفلسفية والعلمية عدم وجود حقيقة مطلقة، فما يُعد حقيقة فى مجتمع ما قد لا يكون كذلك فى مجتمع آخر، والسبب عائد إلى كون الحقيقة مرتبطة بالاعتقاد وبالتصوارت المتصلة به، وهو (أى الاعتقاد)، وهى (أى التصورات) فى حالة من التباين والاختلاف، وهو ما تؤكد عليه قصص هذه المجموعة القصيرة جداً؛ والهوية منظومة متكامله من المكونات المادية والمعنوية والنفسية والاجتماعية، تتميز بوحدتها التي تتجسد في الروح الداخلى المتغلغل فى المجتمع وأفراده، وهى ليست معطى نهائياً تام الاكتمال، لأنها فى حالة صيرورة دائمة، ولا تقبل التحديد الصارم لمفهومها، لانطوائها على عناصر منها المتفاعل، ومنها المتناقض، ومنها النشط ومنها الخامل، وهذه العناصر من الكثرة والاختلاط بما يجعلها متشابكة معقدة فى نفس الآن، وللهوية وجود أصيل فى المجموعة، لاسيما ما يتعلق بمكوناتها وصيرورتها وتناقضاتها وما اعتراها من متغيرات وشوائب؛ نفس الأمر مع ثقافة المجتمع خصوصا الجانب المعنوى فيها، ذلك المبنى على الأخلاقيات التى تواضع عليها المجتمع.
     قلتُ قبلاً إن الكيف فى القصص القصيرة جداً، لا يتطلب توفر متطلبات التجنيس فقط، وإنما يتطلب كذلك التكثيف، العمق، الإيحاء، الإدهاش، التفاجؤ، المصادمة، التوهج، والمفارقة؛ وذكرنا أن معيار الكم ذلك الذى يحول دون الإطالة التى تـُلحق القصة القصيرة جداً بالقصة القصيرة، ويمنع عنها فى ذات الوقت الضمور المَرَضى الذى يخرجها من دائرة القصص القصيرة جداً، مرهون بفنية استخدامه وتكامله مع معيار الكيف بمراعاة ضرورات الاكتمال البنائى ومساحة الصفحة؛ وقد توفرت هذه الأمور فى أغلب القصص القصيرة جداً التى ضمتها المجموعة ـ لاحظ أننى لم أقل كلها ـ وحملت كذلك سمات إضافية كالشاعرية والانتقادية والسخرية واتباع السطر الشعرى المنقوص ذلك الذى انتشر فى الكتابات الأدبية سردية كانت أم شعرية بعد ظهور قصيدة التفعيلة.
(3)
     اسمح لى عزيزى القارئ بأن أطوف بك، فى سياحة عجول، بين دستة مختارة مما تحتويه المجموعة التى بين يديك من قصص قصيرة جداً هى: غيبة، إعجاب، قدرة، أمومة، سعيد، السند، ثورة، هرمون، اعتراف، الوطن، النتيجة، الزعيم ورعيته.
     فى (غيبة) انتقاد للسلوكات الدينية المظهرية المتناقضة وجوهر الدين يعلن عن نفسه بوضوح.
"لم يمنعه صيام رمضان من أكل لحم أخيه ميتاً..
ثم عطر لسانه بذكر الله
وخلل أسنانه بالسواك
استعدادا
لالتهام فريسة جديدة!."
     ولعلك لاحظت عزيزى القارئ توفر متطلبات التجنيس فيها بحيث تـُقبل كقصة قصيرة جداً دونما اعتراض؛ وإضافة إلى  مضمونها الانتقادى، أحسبك تبينت بيسر سمات التكثيف،الإيحاء، واللعب على التناقض، والمفارقة؛ فضلا عن بروز دور التناص القرآنى كمكون بنائى، وكذا التشكيل بمفردات وأدوات وثيقة الصلة بالممارسات الدينية، هذه الممارسات التى قد تستخدم فى أمور مخالفة لأوامر ونواهى الدين؛ أما من حيث الشكل فقد اعتمد النص كما ترى السطر السردى المنقوص مما أضفى على النص قدراً من إيقاعية ومظهرية الشعر التفعيلى، هذه المظهرية التى أخذ بها شعراء النثر وجاراهم فيها عدد لا يستهان به من شعراء التصريع التقليدى.

     وفى (إعجاب) سخرية مرة من الواقع الاجتماعى وسلوكيات أفراده، وإدانة عمادها المفارقة المؤدية إلى التفجير الدلالى.
"بصوت شجى راح الشحاذ يغنى
أعجب به الجميع
نظر إلى أيديهم فى لهفة
وجدهم يصفقون!"

     إنها جمل أربع كتبت فى سطور أربعة، بحيث استقل كل سطر بجملة، والجملة الأخيرة بالسطر الأخير أتمت المشهد القصصى الذى صيغ بلغة مقتصدة. صحيح أن كل جملة  تحمل معنى محدداً، لكن المفارقة التى أحدثتها الجملة الأخيرة هى التى أكملت المشهد السردى وكسرت أفق توقع المتلقى.

     وتعتمد (قدرة) على التورية السردية،  فمن رياضة لا تمارس، ومتابعة وتشجيع لما يبثه التليفزيون عنها، وانفعال شديد لعدم قدرة لاعب على التسديد صوب الهدف، إلى إيحاء بعدم القدرة على ممارسة الحياة الجنسية.
"أثناء متابعته مباراة لكرة قدم
انفعل بشدة لعدم قدرة اللاعب على تسديد الهدف 
فرمقته زوجته 
بابتسامة ساخرة"
     لقد أغنت نظرة عينىّ الزوجة وابتسامتها الساخرة عن كلام كثير. بأقل الكلمات والجمل قابل مجدى شلبى بين مرميين، مرمى الملعب الرياضى ومرمى الزوجة، وفشل الاثنين، اللاعب والزوج، فى التسديد، كل فى مرماه.
     (أمومة) تعرب عن نفسها بنفسها، وهل ثمة من هو أحن على الابن من الأم وإن عقها؟..
"صفعها ولدها العاق
فتفلت فى وجه الشيطان
لتبعده عن ابنها"
     ثلاثة جمل غاية فى الاكتناز باحت بالشىء الكثير عن علاقات الأمومة والبنوة.
     والافتتان بالذات متمثل فى (سعيد). لنقل هى النرجسية، تلك الخلة الإنسانية التى تناولتها قصص وحكايات جمة، منذ العصور السحيقة حتى الآن، لكنها فى هذه المجموعة جاءت بصورة مغايرة.
"التفت فجأة نحو الصوت المرحب به
فلم يبصر
إلا صورته فى المرآة"
     هنا نتجه بحواسنا ووسائط استشعارنا صوب الحفاوة الإنسانية المفقودة. هنا الأصل والصورة، لا الأصل والنسخة؛ وما عرضته عليك عزيزى القارئ آنفاً يعين على تفهم هذا النص القصصى. إنها قصة قصيرة جداً على قدر كبير من الجودة الفنية.
     وتتجاوز (السند) معنى التساند القريب إلى معانى التوازن والتصالب حتى فى حالات التضاد فى الاتجاه، ووجود الفواصل.
"كاد الحائط أن يسقط
استند إليه أحدهم من الإعياء
وفى الجهة الأخرى استند عيىٌ آخر
فظل الجدار قائماً"
     إنه التوازن التلقائى لكل أوجه الحياة ، عولج بأسلوب فنى راق جمع كل صفات القصة القصيرة جداً التى سردتها عليك قبلاً عزيزى القارئ.
     وفى (ثورة) تجسدت، فى ثمان كلمات، واحدة من تمثلات الدون كيشوتية، فثمة شخص ميدان ثورته هو الليل، فإن أشرق الصبح ركن إلى النوم.
"تحدى سكون الليل بثورته
 وعندما أشرق الصبح
 نام!" 
     إن رُصَّتْ هذه الكلمات الثمانى فى سطر واحد ما أكملته. إنه التكثيف في الرؤية، الاكتناز فى الأسلوب، والاقتصاد فى اللغة؛ وهو أيضاً الإيماض.
     وعن خلة أخلاقية ذميمة هى الغرور كتب (هرمون) محذرا من تضخم هذه الخلة بأوجز الكلمات وأقل الجمل. إنها الرؤية الناقدة، المهيمنة على أغلب ما تضمه المجموعة، وإنه التحذير من مغبة تغذية الغرور بما هو مناف للضرورات الاجتماعية، ولاحظ عزيزى القارئ قلة عدد الجمل السردية والاقتصاد اللغوى فيها حتى إن جملة فى النص تكونت من مفردة واحدة؛ وتمنيتُ ـ بنائيا ـ لو أن الجملة الأخيرة اختزلت فى مفردة واحدة كذلك لا ثلاث مفردات كالجملة الأولى لتأكيد هذا الاقتصاد من ناحية، ولتعظيم المردود الجمالى من ناحية أخرى؛ وأحسب ـ وهذه وجهة نظر شخصية ـ أنه لو استبدلت مفردة "انفجر" بالمفردات الثلاثة المكونة لهذه الجملة لكان أفضل، ولواستبدلت مفردة "نام" بمفردة"انفجر" لكان أوفق. وفيما يلى النصوص الثلاثة، الأصلى (رقم 1)، والمقترح (رقم 2) والمقترح بعد تعديله (رقم3):
(1)
"انتفخ حجم الثمار
حشى وسادته
نام....
أيقظه صوت انفجار!!"
(2)
"انتفخ حجم الثمار
حشى وسادته
نام.....
انفجر!"
 (3)
"انتفخ حجم الثمار
حشى وسادته
انفجر..
نام!"
     ولاحظ عزيزى القارى أن أكثر من نص مما عرضته عليك ها هنا ومما هو موجود داخل المجموعة حمل علامة التعجب (!)، وهى علامة للتأثر والانفعال، وتستخدم فى حالات كثيرة منها: الاندهاش، الفرح، الحزن، الاستغاثة، التحذير، التمنى، الرجاء، والإنكار..الخ؛ وهذه الاستخدامات كلها، وغيرها، أمرها وارد مع الطبيعة الانتقادية لهذا الجنس الأدبى السارد؛ واستخدام "مجدى شلبى" لها فى قصصه القصيرة جدا إنما يثبت حرصه على نقل تعجبه إليك أيها القارئ العزيز ليشركك معه فى انفعاله.  
     انتقاد أخلاقى آخر لواحدة من الصفات الذميمة تجده عزيزى القارئ فى (اعتراف). إنها الأنانية.
"أنا... 
... وأنا  
بين أنانيتنا؛ دارت معركة 
قبعة مرفوعة 
وصدغ مصفوع
قبل أن أكمل اعتذارى 
أتيت بذنب جديد"
     تؤخذ هذه القصة على مستويين أحدهما خارجى والآخر داخلى. الخارجى متصل بتصور أن المعركة إنما تدور بين شخصيتين تنتصر كل منها لأنانيها، أما الداخلى فيشير  إلى نشوبها داخل شخصية واحدة تعانى من الفصام، شخصية انقسمت على ذاتها فصارت ذاتين، كل ذات منهما معنية بإعلاء أنانيتها، وقد تمنيتُ لو لم ترد جملة "دارت معركة" فى النص، فلواكتفى القاص بالقبعة المرفوعة والصدغ المصفوع  باعتبار أن كليهما يوحى بنشوب المعركة  كان أوقع، وأحال إلى معان أخرى، وأتاح للقارئ فرصاً لإعادة إنتاج الدلالة.
     (الوطن) واحد من أفضل النماذج القصصية القصيرة جدا التى استحسنتها فى هذه المجموعة ليس فقط لأنها تعرض لحال الوطن الضائعة معانيه فى عيون من يُفترض أنهم سيعيشون فيه ويذودون عنه، وإنما أيضاً لإيحائياتها وتعدد دلالاتها، فضلا عن بعدها عن المباشرة والكليشيهات الجاهزة.
"سألني طفلي: أين الوطن؟
رفعت البصر نحو السماء
فسقط المطر"
     أحسبك ستتجه بتفكيرك  بعد قراءتك ـ عزيزى ـ لـ (النتيجة) صوب السياسة، وصوب المصريين والعرب.. إنها رؤية المؤلف يُصَدِّرها إلينا بقالب فنى رمزى. فيه إدانه وتحذير، فنحن المتناحرين لاهون عن الخطر المحدق بنا، إنْ على المستوى المحلى أو على المستوى القومى؛ وإن ذهبَ تفكيرك صوب اتجاه آحر فهذا دليل جودة تسعد المؤلف وتسعدنى بالحتم.
"تنابذا بالألقاب
تبادلا اللكمات
على بعد خطوات
وقفت داعرة
تنتظر الفائز" 
     من هما هذان المتنابذان المتلاكمان؟... إنهما نحن  المصريين، نحن العرب، وقد انقسمنا محليا وقوميا إلى فريقين متقابلين متضادين متقاتلين؛ وهناك دائما، فى الحالين، من ينتظر ـ بعد إنهاك التقاتل ـ الفائز ليتلهمه، وقد صور مؤلفنا مجدى شلبى  هذا المنتظِر فى هيئة داعرة، رامزاً بها إلى حزب سياسى بعينه ظهر على الساحة المصرية بعد ثورة 25 يناير 2011م،  أو إلى الدولة الصهيونية التوسعية. إنه الرمز الفنى قريب الدلالة، الذى يَسْهُل من خلاله الوقوف على حقيقة المرموز.

     ما يلفت الانتباه فى القصة القصيرة جداً التالية، واختم بها استعراضى العجول لعدد قليل من النصوص المئة، غير كونها مكتملة الأركان، كونها قصة رامزة كذلك، الرمز فيها ـ كسابقتها ـ غير ملغز ولا معتم ، وإنما هو رمز فنى  دافع إلى التأمل. رمز قـُدِّم عبر نص قصصى مكثف دون أن يهتز بناؤه أو تختل دلالته، وهى دلالة يشترك المتلقى فى إنتاجها من خلال حله لشفراتها. إنها قصة " الزعيم ورعيته"؛ واستسمحك بأن أضعها بين يديك دون تدخل منى لتـُعْمِل فيها أدواتك وترى فيها رأيك، فأنت قارئ ذكى ومشارك.
"فى غرفة العمليات كان أنف الملك ينزف بشدة
فشل لأطباء فى وقف النزف
تأهب أحد العامة للتبرع بدمه تطبيقاً للشعار الذى ردده طويلاً
(بالروح والدم نفديك يا زعيم)...
إلا أن الزعيم رفض بشدة أن تختلط دماء الزعماء بدماء الصعاليك
فقضى".
     لربما، بل إننى متيقن من أنك قارئى العزيز قد لمست فى النماذج التى قدمتها لك سمات جمالية إضافية غير تلك التى ذكرتها لك آنفاً، وما اخترتُ لها هذا الموضع إلا لأنك، بوصولك إلى ها هنا، تكون قد اطلعت على اثنى عشر نموذجاً تسهل لك المراجعة فى ضوئها.. وهذه السمات غير مقصورة على هذه النماذج، وإنما هى متكررة فى أغلب ما ضمته المجموعة، ولا أقول فيها كلها، سمات من قبيل: التركيز عبر التضييق البؤرى، اللعب باللغة حذفا وإضماراً وترادفاً وجناساً، الانشغال بالحاضر فى آنيته، اكتمال الفكرة وواحديتها، والتسريع الإيقاعى من خلال:
ـ البناء بالجمل البسيطة، الفعلية، الحركية.
ـ استخدام علامات الترقيم.
ـ عدم الإسراف فى اللجوء إلى حروف العطف.
ـ الإقلال من الاسم الموصول.

     وما دمت قد وصلت إلى هذا الموضع الذى تقفه معى الآن يا عزيزى، فأنت تتمتع بخبرة قرائية أهلتك لمتابعة ما أقوله دون أن يتصدع رأسك أو تصاب بالملل فتتوقف عن المتابعة وتضع المجموعة جانبا. هذه الخبرة هى ما نطلق عليه نحن معشر النقاد هواة المصطلحات والكلمات الضخمة "الخبرة المشتركة"، أى تلك الخبرة التى يشترك فيها كل من الناقد وقارئه أو المؤلف وقارئه، أى أنا وأنت، أو المؤلف وأنت. إنها ذات الخبرة المشتركة التى ذكرتها لك فى البداية، أذكرك بها هنا، بعد انتهاء سياحتنا العجول، لأثبت لك أن القصص القصيرة جداً التى كتبها وجمعها المؤلف مجدى شلبى، كتبها وجمعها معتمداً على هذه الخبرة، لذا كان خلو ما قدمه لك فى هذه المجموعة من الرطانة والحشو والتوشية ومما لا طائل منه، وهذا شرط لا غنى عنه فى القصص القصيرة، فما بالنا بالقصص القصيرة جداً؟
    وأيضاً ما دمت قد وصلت إلى هذا الموضع، مثبتا لماحيتك وحذقك، فأنت تدرك الآن أن المئة صورة التى بين يديك ليست مستنسخات مبنية على التطابق مع الأصل؛ وأن هذا الأصل، الذى انبثقت منه هذه الصور المئة حاملة جينات الاختلاف، جمع بين ما قلتُ به أيضاً فى البداية، أى جمع بين الحقيقة، والهوية، والقيم والأعراف والعادات والتقاليد المستقرة فى بنية المجتمع، ومجمل مواقف المؤلف تجاه هذا المجتمع (باعتبارها مواقف مركزية)، وجدلها فى جذر واحد يستحق أى يطلق عليه وصف الأصل.
~*~
     لعلك، بعد هذه الدستة من النصوص القصصية القصيرة جداً التى استعرضتها معك عزيزى لقارئ، تتساءل الآن: أما من مآخذ؟.. أما من عيوب؟

     الكمال لله وحده، وللمآخذ والعيوب وجودها فى كل عمل أدبى.
    
     نعم هناك مآخذ مثل انزلاق بعض النصوص إلى الخاطرة، والقول البليغ بلاغة محضة، والحكمة الصرفة، والوعظ الأخلاقى، والإخبار المباشر، وبعض الشعارية؛ ويضاف إلى هذه المآخذ مأخذ شكلى مصدره عدم تقسيم محتويات المجموعة إلى محاور ـ أو فصول ـ توزع عليها  بحيث يضم الواحد منها المتساوق فى الاتجاه من القصص القصيرة جداً التى تحتويها، وبحيث تشكل محتويات كل محور ـ أو فصل ـ  تنويعات مختلفة على لحن واحد، ومن المجموع الكلى لهذه التنويعات تتشكل المعزوفة الفلهارمونية الشاملة الممثلة فى المجموعة.

     وهناك عيوب منها: العناوين الكاشفة، والركون إلى الفعل الماضى فى الغالبية الغالبة مما احتوته المجموعة، وعدم تحريك هذا الركون إلا فى  حالات قليلة، حتى هذا القليل لا يكون إلا باللجوء إلى الفعل الماضى الممتد، أو الناقص المضارع؛ ومع سلامة اللغة، فإن الأمر لم يخل كذلك من هَنَات جد نادرة، أرجو لو راجعها مؤلفنا قبل النشر.

     ولاحظ عزيزى القارئ أمرين تعمدتهما، أولهما أننى فـََصَلتُ بين المآخذ والعيوب آخذاً فى اعتبارى أن المآخذ تعود إلى رأيى الشخصى الذى يُتاح لك ـ ولغيرك ـ الأخذ بها أو معارضتها أو حتى رفضها، أما العيوب فهى ما لا أملك القدرة على التنازل عنها لاتصالها بما استقر ورسخ فى ميادين السرد الأدبى.. أما ثانيهما، ولعلك بألمحيتك قد لحظته قبل أن أشير إليه، فإننى اعتمادا على هذه الألمحية لم أشر إلى أسماء القصص القصيرة جداً موضوع هذه المآخذ والعيوب تاركا لك فرصة اكتشافها بنفسك هادفاً إلى حثك على المشاركة، لثقتى بأنك قارئ إيجابى لا يرضيه التلقى السلبى، ولا التلقى الموجه توجيها كلياً، مكتفياً بالإشارة والإيماءة.

     ومع هذا، وبالرغم مما أشرت أو أومأت إليه من مآخذ وعيوب، فإنه يمكننى القول بأننا ـ أنا وأنت ـ  إنما نقف أمام جهد مخلص بذله ويبذله مؤلف جاد، ليضع بصمته الخاصة على ما يتم إبداعه تحت راية هذا الجنس الأدبى المراوغ المسمى بالـ"القصة القصيرة جدا"، الذى اقتحمه ـ بسبب قصره الشديد ـ أنصاف وأرباع الموهبين وفقراء التجارب الإبداعية وصار كالطعام المكشوف فحطت عليه وزحفت إليه الهوام الطائرة والحشرات الزاحفة وأفسدت الكثير من خواصه، ولولا القـُصَّاص من أمثال مؤلفنا "مجدى شلبى"، أولئك الذين يخلصون لهذا الجنس إنتاجا وحماية، لعافته النفس وانصرفت عنه؛ وأعود فأوكد أننى أرى "مجدى شلبى" قد نجح فى تقديم قصص قصيرة جداً جيدة متماسة مع لغة الشعر أحيانا، ولغة الواقع الموار بقضايا الواقع الحى من: ثقافية واجتماعية وسياسية ودينية وأخلاقية واقتصادية ووطنية.. وغيرها أحايين أخرى، كما أراه قد نجح فى التعبير عن همومه وهموم قرائه ومجتمعه بفنية راقية.

قاسم مسعد عليوة
الأول من يناير 2013م.